أغنياء الحرب.. كيف استغل تجار العملة في غزة معاناة الفلسطينيين؟

أغنياء الحرب.. كيف استغل تجار العملة في غزة معاناة الفلسطينيين؟

في مشهد يعكس عمق الأزمة المالية الخانقة التي يعاني منها قطاع غزة، اضطر الفلسطيني عبد الله عبد ربه إلى قضاء ساعات طويلة تحت أشعة الشمس الحارقة متنقلًا بين المحال التجارية، بحثًا عن تاجر عملة يستطيع سحب راتبه الشهري، دون جدوى.

عاد عبد ربه، وهو أب لأربعة أطفال، إلى خيمته غرب مدينة غزة خالي الوفاض، بعد أن فشل في الحصول على النقود، وبالتالي عجز عن شراء أدنى احتياجات أسرته.

وقال لوكالة الأنباء الصينية “شينخوا” والعرق يتصبب من جبينه: “عمولة سحب الراتب أصبحت 55%.. التجار يأخذون أكثر من نصف الراتب مقابل إعطائنا السيولة، هذا أمر لا يحدث في أي مكان آخر”.

وأضاف بأسى: “لم أتمكن من الحصول على نقود، لذلك لم أستطع شراء الطحين لأطفالي الصغار.. إنهم جائعون، وأنا عاجز تمامًا”.

وتعكس حالة عبد ربه آلاف الحالات المماثلة التي باتت تتكرر يوميًا، في ظل شح السيولة النقدية وتعطل عمل البنوك منذ اندلاع الحرب في 7 أكتوبر 2023، عقب الهجوم الذي شنّته حركة “حماس” على جنوب إسرائيل.

البنوك مغلقة.. والعملات ممزقة

منذ بدء الحرب، منعت إسرائيل إدخال السيولة النقدية إلى غزة، بما في ذلك الشيكل الإسرائيلي، وأغلقت البنوك بشكل شبه كلي، وهذا الوضع أجبر السكان على اللجوء إلى محلات الصرافة وتجار العمولة للحصول على الأموال، فيما أصبحت العملة الورقية المتداولة مهترئة وغير صالحة، ما فاقم الأزمة.

يقول صالح فيصل، من داخل أحد الأسواق العشوائية المنتشرة في غزة: “منذ الصباح وأنا أتنقل من بسطة إلى أخرى لشراء شيء نأكله، لكن الباعة يرفضون النقود الورقية بحجة أنها تالفة”.

ويضيف بأسى: “الأسعار تضاعفت بشكل جنوني، والبضائع محتكرة في أيدي قلة من التجار، بينما النظام المصرفي انهار تمامًا”.

“لسنا من صنع الأزمة”

محمد الحلاق، بائع متجول، أوضح من جانبه أنه لا يرفض التعامل بالنقود المهترئة عن رغبة، بل عن ضرورة: “التجار الكبار يرفضون أخذها منا، وبالتالي قد نخسر البضاعة والنقود معًا”.

وأضاف: “نحن لسنا من خلق هذه الأزمة، لكننا في النهاية الضحية، إذا توقفنا عن العمل سنفقد مصدر رزقنا، وسنموت جوعًا”.

أرقام صادمة

تشير بيانات سلطة النقد الفلسطينية إلى أن نحو 1.2 مليار شيكل من السيولة المطلوبة مفقودة من النظام المصرفي حتى منتصف 2024، أما برنامج الأغذية العالمي، فيفيد بأن 9 من كل 10 عائلات في غزة تعاني من انعدام الأمن الغذائي.

وقال المحلل الاقتصادي وعضو الأمانة العامة لاتحاد الاقتصاديين الفلسطينيين، سمير أبو مدلله، إن القطاع المصرفي في غزة يواجه “انهيارًا شبه تام”، موضحًا أن 98% من البنية المصرفية تعطلت أو دُمّرت، وأن نحو 180 مليون شيقل نُهبت من البنوك في ظل الفوضى، بينما بلغت الخسائر المباشرة أكثر من 14 مليون دولار.

وتابع أبو مدلله أن التضخم تجاوز 500%، كما تراجعت قيمة محفظة القروض بأكثر من مليار دولار، ومع توقف الحوالات الرسمية، نشطت السوق السوداء، حيث يتم تحويل الرواتب الرقمية إلى سيولة نقدية عبر وسطاء غير رسميين مقابل عمولات تتجاوز 50%، في ظاهرة أطلق عليها السكان اسم “التكييش”.

عمولة تفوق نصف الراتب

أحمد الداعور، موظف في وزارة التربية والتعليم، قال لـ”شينخوا”: “عندما يصلني راتبي عبر تطبيق رقمي، أضطر للذهاب إلى تاجر عمولة.. إذا كان راتبي 200 دولار، لا أحصل فعليًا إلا على 90 إلى 100 دولار نقدًا، والباقي يذهب كعمولة”.
وأضاف: “ندفع ثمن الحصار مرتين: مرة بسبب منع النقد، ومرة بسبب الاستغلال الداخلي”.

وتُقدّر مصادر محلية أن نحو 70% من الحوالات الرقمية تمر اليوم عبر وسطاء غير مرخصين، وسط اتهامات لبعضهم بالارتباط بفصائل محلية أو جهات نافذة تمنحهم غطاءً للعمل رغم القرارات الرسمية بمنع هذه الممارسات.

آثار نفسية واجتماعية مدمرة

وتشير تقارير دولية إلى تفاقم الوضع الاجتماعي في غزة، إذ تجاوزت نسبة الفقر 85%، بينما وصلت البطالة إلى 90%.
وقالت منى شحادة، وهي موظفة اجتماعية في منظمة إغاثية محلية: “كل يوم نسمع عن حالات طلاق جديدة بسبب الفقر، أو محاولات انتحار في صفوف الشباب. الأزمة خلفت آثارًا نفسية واجتماعية عميقة”.

وأضافت: “ارتفعت معدلات الجريمة، وظهرت أنماط جديدة من الاحتيال والسرقة، نتيجة غياب الأمان الاقتصادي وانهيار المنظومة الاجتماعية”.

خرق قانوني.. ودعوات للمحاسبة

يرى خبراء قانونيون أن إسرائيل تنتهك اتفاقية باريس الاقتصادية الموقعة عام 1994، والتي تنص على التزامها بتحويل فائض الشيكل وتسهيل حركة الأموال.

وقال المحامي المتخصص في القانون الدولي أحمد حمد لـ”شينخوا”: “منع إدخال النقد إلى غزة يُعد خرقًا مباشرًا للاتفاق، وقد يصنف كجريمة اقتصادية جماعية في سياق العقوبات الجماعية”.

ودعا حمد إلى تفعيل دور سلطة النقد في ضبط الصرافين غير المرخصين، ومصادرة أرباحهم، وتجميد أرصدتهم، ونشر أسمائهم في قوائم المنع من السفر، مشددًا على ضرورة إنشاء بوابة رسمية لتلقي شكاوى المواطنين، ودعم المحافظ الإلكترونية المرخصة، وربطها بأنظمة دفع دولية موثوقة.

وطالب حمد بإيفاد بعثات رقابية من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي إلى غزة لتقييم الوضع المالي ميدانيًا، والحد من تغوّل السوق السوداء.

حرب مستمرة وكلفة إنسانية باهظة

ومنذ اندلاع الحرب في 7 أكتوبر 2023، تشن إسرائيل هجومًا واسعًا ضد حركة “حماس” في غزة، أسفر، وفق وزارة الصحة في القطاع، عن استشهاد أكثر من 60 ألف شخص وإصابة 145 ألفًا، إلى جانب دمار هائل في البنية التحتية.

وقد اندلعت الحرب إثر هجوم مفاجئ نفذته “حماس” على جنوب إسرائيل، ما أدى، حسب الرواية الإسرائيلية، إلى مقتل أكثر من 1200 شخص واحتجاز عشرات الرهائن.

المصدر: تيليجراف مصر