تجد الجزائر نفسها أمام مفترق حاسم في مسارها الاقتصادي والطاقي، إثر قرارها عدم تجديد عقد عبور أنبوب الغاز المغاربي–الأوروبي عام 2021، وهو الأنبوب الذي كان يشكل شريانًا أساسيًا لتصدير الغاز الجزائري إلى إسبانيا عبر الأراضي المغربية، وفقًا لتقرير حديث نشرته الخبيرة الدولية في شؤون الطاقة جيسيكا عبيد، الشريك المؤسس في “نيو إنرجي كونسالت”.
يوضح التقرير أن إغلاق هذا الأنبوب لم يكن بسبب خرق تعاقدي بل نتيجة قرار سياسي بعدم تجديد عقد العبور، ما قلّص مرونة الصادرات الجزائرية وإيراداتها، وأثر سلبًا على صورتها كشريك طاقي موثوق في المنطقة.
ويضيف أن إسبانيا، التي كانت من كبار مستوردي الغاز الجزائري، قلصت وارداتها إلى النصف بحلول 2022 مقارنة مع 2015، مقابل زيادة اعتمادها على الغاز الطبيعي المسال وتنويع مصادر الإمداد، وهو ما أضعف موقع الجزائر في السوق الأوروبية وأعاد ترتيب أوراق الطاقة في المغرب الكبير، وفق المصدر نفسه.
يحذر التقرير من أن تأخر الجزائر في تنفيذ انتقال اقتصادي وطاقي حقيقي قد يجر عليها كلفة باهظة، إذ يعتمد الاقتصاد الجزائري بنسبة 90.8٪ على صادرات المحروقات التي تؤمن 47٪ من الإيرادات الجبائية بما يعادل 50 مليار دولار سنة 2023، فيما يتجاوز الاعتماد على الغاز في إنتاج الكهرباء 97٪، ما يجعل البلاد عرضة للصدمات الخارجية والتحولات الكبرى في أسواق الطاقة العالمية، بحسب تقرير “نيو إنرجي كونسالت”.
يكشف التقرير أن البطالة بين الشباب تسجل نسبًا مقلقة بلغت 30.8٪ سنة 2024، ويعمل 39٪ من اليد العاملة في القطاع غير المهيكل، بينما يستمر الإنفاق العمومي في الارتفاع دون أن تصاحبه خطوات ملموسة لتنويع الاقتصاد بفعل قيود القطاع الخاص وضعف المؤسسات وضبابية الرؤية طويلة الأمد.
ووفق ما جاء في التقرير، تملك الجزائر عاشر أكبر احتياطي مؤكد للغاز الطبيعي في العالم بــ159 تريليون قدم مكعب و12.2 مليار برميل من النفط، غير أن قطاع الطاقة يعاني ضعف الأداء بسبب بنية تحتية متقادمة وبيئة تنظيمية معقدة ونزعة قومية في الاستثمار تنفر رؤوس الأموال الأجنبية.
يشير التقرير إلى أن الطلب الداخلي على الطاقة يتزايد بوتيرة سريعة، إذ استهلكت الجزائر في 2023 نحو 60 مليار متر مكعب من الغاز و400 ألف برميل نفط يوميًا بمعدل نمو سنوي 5٪، وصل إلى 6٪ خلال السنوات الخمس الأخيرة، بينما يتنامى الطلب الصناعي خصوصًا من قطاعات التعدين والصلب، ما يضغط على الموارد ويقلص كميات الغاز المتاحة للتصدير.
يضيف التقرير أن منظومة الدعم الحكومي تفاقم هذه الاختلالات، إذ تحافظ الجزائر على أسعار وقود وكهرباء من بين الأدنى عالميًا، ما يشجع على الإفراط في الاستهلاك ويؤخر اعتماد البدائل الطاقية، فيما تبلغ كلفة الدعم الإجمالية 17 مليار دولار سنويًا تشمل السكن والمياه والكهرباء والغاز وزيت الطبخ والمواد الغذائية، أي ما يعادل 6٪ من الناتج المحلي الإجمالي لسنة 2024.
يؤكد التقرير أن المخاطر المالية تتجلى في أرقام العجز، حيث سجّلت الجزائر في 2023-2024 عجزًا في الميزانية يفوق 2.5 مرة ما كان عليه قبل عام، رغم امتلاكها احتياطيًا من العملات الأجنبية يصل إلى 75 مليار دولار ونسبة دين عمومي منخفضة لا تتجاوز 2٪ من الناتج المحلي الإجمالي.
يحذر التقرير كذلك من أن الاتحاد الأوروبي – الزبون الأول للغاز الجزائري – يمضي في خفض الطلب ضمن إستراتيجيته لإزالة الكربون، وهو ما يشكل تهديدًا مباشرًا لعائدات الجزائر وإنفاقها الحكومي المرتبط بها، إذ يستهدف الاتحاد خفض استهلاك الغاز بنسبة 80٪ بحلول 2050، بينما يعطي الأولوية لسلاسل إمداد منخفضة الكربون وإدارة انبعاثات الميثان.
يبرز التقرير أن غياب رؤية انتقالية متكاملة يزيد من هشاشة الجزائر، فالأهداف الطموحة لإنتاج الهيدروجين الأخضر وتوسيع الطاقات المتجددة تظل حبرًا على ورق، إذ لم تتجاوز مساهمة الطاقات المتجددة 3٪ من القدرة الكهربائية المركبة رغم الإمكانات الشمسية الهائلة، بسبب غياب عقود شراء الطاقة ونقص اليد العاملة المؤهلة وتعقيدات اللوائح التنظيمية.
يختتم التقرير بالتأكيد على أن الجزائر تحتاج خطة انتقال طاقي واضحة ومتكاملة على مدى عقود، ترتكز على تنويع اقتصادي وإصلاح مؤسسي وتكامل إقليمي ودولي، وإلا ستواجه مخاطر فقدان أصول طاقية ضخمة وتراجع نفوذها الجيوسياسي في نظام طاقي عالمي جديد يعيد تشكيل خرائط النفوذ في المنطقة.
تعليقات